التحولات المتسارعة في العالم العربي تجعل من الصعب على الدارسين والباحثين تحليل ما يحدث على الساحة العربية بصورة دقيقة، وإذا كانت الحالة السياسية تفرض نفسها لطبيعة الأحداث، فإن ذلك لا يمنع من إطلالة على التحولات الأخرى التي تشهدها الساحة العربية، ولعل في مقدمتها التحولات الاجتماعية التي لم تخلُ -هي الأخرى- من تحولات سريعة خلال الفترة الماضية، وعلى الرغم من أن المشهد الاجتماعي العربي لم يستقر بعد.
ولعل أبرز تجليات هذا المشهد اتجاه الأضواء نحو الجيل الجديد من الشباب، إذ إن هؤلاء الشباب كانوا إلى فترة قريبة معزولين عن الإسهام في أي تحول داخل المجتمعات العربية.
وعلى الرغم من ترديد المقولات «التراثية» العربية بأن الشباب هم المستقبل والقيادة الواعدة، فإن الواقع يشير إلى أن معظم المجتمعات العربية غيبت الشباب عن أي دور في الحراك الاجتماعي أو السياسي، وكان جل الاهتمام بالشباب هو إعدادهم للقيام بالدور الوظيفي المهني من خلال الإعداد التعليمي دون أي إعداد آخر للمشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية.
ومن هنا كانت المفاجأة للعرب كافة أن هؤلاء الشباب استطاعوا خلال فترة وجيزة اختصار الزمن والخبرة والإعداد المسبق ويتصدروا المشهد السياسي والاجتماعي، وأصبحت وسائل التأثير تتسابق على هذا «الاكتشاف» الذي تجاهلوه لعقود طويلة، ولم يكتف الشباب بالحضور بل فرضوا «أجندتهم» السياسية والاجتماعية على المجتمع الذي أصبحت مؤسساته الرسمية والأهلية تتبنى ما يطرحه هؤلاء الشباب من رؤى وأفكار.
ولم يكن حضور الشباب هو المفاجأة الوحيدة في المجتمعات العربية بل كانت المفاجأة الأخرى أن هذا الشباب لم يخرج من الأطر المعتادة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، كالأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المهنية، بل لم يخرج من الجامعات ومؤسسات الثقافة والفكر كما اعتاد الناس على ذلك، وإنما اختار هذا الجيل بنفسه آلية حضوره على المشهد العربي من خلال الوسائل الحديثة مستثمرا ما توفر له من آليات ومعرفة سبقت المجتمع والمؤسسات الرسمية والأهلية، وقد انعكس ذلك على أداء هؤلاء الشباب، فلم تأتِ مطالبهم ورؤيتهم مرتبطة بتوجه سياسي أو أيديولوجي، بل انطلقت إلى أبعد من ذلك حين اختاروا المبادئ الإنسانية العامة التي يلتقي عليها البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم وأفكارهم، فترددت مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والشفافية وحقوق الإنسان وغيرها من المبادئ التي يملؤها كل مجتمع بمعتقداته وقيمه، لكن لا يختلف أحد على أهمية تطبيقها.
وإذا كانت هذه الصورة هي أبرز تجليات المشهد العربي الحالي فإن من تجلياته كذلك استقلالية التحركات المجتمعية العربية -إلى حد كبير- عن التأثير المباشر للقوى الخارجية، فإذا كانت هذه التحركات متأثرة بالقيم الإنسانية فإنها لم تكن رجع صدى لما عند الآخرين، ولعل البعد الزمني عن تلك التأثيرات أكد مثل هذه الاستقلالية، فالحراك العربي تأخر عن موجة التغيرات التي سادت العالم مع بداية هذا القرن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والتي شملت معظم الدول الأوروبية الشرقية وآسيا الوسطى، ثم ما تلا ذلك من تحركات في جنوب شرق آسيا ثم أميركا الجنوبية.
ولو أن هذه التحركات العربية حدثت في تلك الفترة لقيل إنها صدى لما عند الآخرين، كما أنها لو حدثت في بداية هذا العقد من الزمن عندما طرح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش «الابن» مشروعه الذي سماه الشرق الأوسط الكبير، والذي تم الترويج له بصورة كبيرة خلال تلك الفترة -لو تم ذلك- لقيل إن هذه التحركات استجابة لهذا المشروع، لكن تأخر التحركات العربية أعطتها صفة الاستقلالية، وحمتها كثيرا من التهم التي كانت ستوجه لها.
فثورتا تونس ومصر كانتا بحراك داخلي صرف، ولم تكونا استجابة لدعوات خارجية على الرغم من تأثرهما بما يدور في العالم من دعوات الحرية والديمقراطية، وقد تمثلت صورة ذلك الاستقلال في موقف «شباب الثورة» في كلا البلدين من الموقف الأميركي، فقد رفض الشباب المصري دعوة للقاء هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية أثناء زيارتها لمصر، كما خرج الشباب التونسي في مظاهرة رافضة لزيارتها لتونس، جاء ذلك ردا على موقف الحكومة الأميركية من كلا الثورتين واتهامهما بمساندة النظامين السابقين في كلا البلدين، في الوقت الذي كان فيه «عواجيز» الأحزاب السياسية يتسابقون للقائها في كلا الدولتين!!
وقد يرى بعض المهتمين بالشأن السياسي أن مثل هذا السلوك لا ينم عن دبلوماسية أو خبرة أو وعي.
وقد يصدق ذلك مع التعامل السياسي في الدول ذات الاستقرار، لكنه لا يصدق على الثورات التي تريد لنفسها أن تنأى عن «مستنقع» الألاعيب السياسية، كما يؤكد على أن العرب بدؤوا يرسمون لأنفسهم طريقا آخر قد يلتقي مع الآخرين وقد يختلف معهم وفقا للمصالح الخاصة بهم، وأن فترة «التبعية» العمياء التي سار عليها العرب خلال العقود الماضية لم تعد هي الوسيلة الطبيعية في العلاقات بين الشعوب والدول، لقد تغير المشهد العربي خلال الفترة القصيرة التي مرت، ولا بد للعرب والآخرين أن يعلموا ذلك، لأنهم بغير هذا لن يستطيعوا أن يرسموا ملامح المستقبل بصورة صحيحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سعيد حارب /العرب القطرية 21/3/2011
ولعل أبرز تجليات هذا المشهد اتجاه الأضواء نحو الجيل الجديد من الشباب، إذ إن هؤلاء الشباب كانوا إلى فترة قريبة معزولين عن الإسهام في أي تحول داخل المجتمعات العربية.
وعلى الرغم من ترديد المقولات «التراثية» العربية بأن الشباب هم المستقبل والقيادة الواعدة، فإن الواقع يشير إلى أن معظم المجتمعات العربية غيبت الشباب عن أي دور في الحراك الاجتماعي أو السياسي، وكان جل الاهتمام بالشباب هو إعدادهم للقيام بالدور الوظيفي المهني من خلال الإعداد التعليمي دون أي إعداد آخر للمشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية.
ومن هنا كانت المفاجأة للعرب كافة أن هؤلاء الشباب استطاعوا خلال فترة وجيزة اختصار الزمن والخبرة والإعداد المسبق ويتصدروا المشهد السياسي والاجتماعي، وأصبحت وسائل التأثير تتسابق على هذا «الاكتشاف» الذي تجاهلوه لعقود طويلة، ولم يكتف الشباب بالحضور بل فرضوا «أجندتهم» السياسية والاجتماعية على المجتمع الذي أصبحت مؤسساته الرسمية والأهلية تتبنى ما يطرحه هؤلاء الشباب من رؤى وأفكار.
ولم يكن حضور الشباب هو المفاجأة الوحيدة في المجتمعات العربية بل كانت المفاجأة الأخرى أن هذا الشباب لم يخرج من الأطر المعتادة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، كالأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المهنية، بل لم يخرج من الجامعات ومؤسسات الثقافة والفكر كما اعتاد الناس على ذلك، وإنما اختار هذا الجيل بنفسه آلية حضوره على المشهد العربي من خلال الوسائل الحديثة مستثمرا ما توفر له من آليات ومعرفة سبقت المجتمع والمؤسسات الرسمية والأهلية، وقد انعكس ذلك على أداء هؤلاء الشباب، فلم تأتِ مطالبهم ورؤيتهم مرتبطة بتوجه سياسي أو أيديولوجي، بل انطلقت إلى أبعد من ذلك حين اختاروا المبادئ الإنسانية العامة التي يلتقي عليها البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم وأفكارهم، فترددت مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والشفافية وحقوق الإنسان وغيرها من المبادئ التي يملؤها كل مجتمع بمعتقداته وقيمه، لكن لا يختلف أحد على أهمية تطبيقها.
وإذا كانت هذه الصورة هي أبرز تجليات المشهد العربي الحالي فإن من تجلياته كذلك استقلالية التحركات المجتمعية العربية -إلى حد كبير- عن التأثير المباشر للقوى الخارجية، فإذا كانت هذه التحركات متأثرة بالقيم الإنسانية فإنها لم تكن رجع صدى لما عند الآخرين، ولعل البعد الزمني عن تلك التأثيرات أكد مثل هذه الاستقلالية، فالحراك العربي تأخر عن موجة التغيرات التي سادت العالم مع بداية هذا القرن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والتي شملت معظم الدول الأوروبية الشرقية وآسيا الوسطى، ثم ما تلا ذلك من تحركات في جنوب شرق آسيا ثم أميركا الجنوبية.
ولو أن هذه التحركات العربية حدثت في تلك الفترة لقيل إنها صدى لما عند الآخرين، كما أنها لو حدثت في بداية هذا العقد من الزمن عندما طرح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش «الابن» مشروعه الذي سماه الشرق الأوسط الكبير، والذي تم الترويج له بصورة كبيرة خلال تلك الفترة -لو تم ذلك- لقيل إن هذه التحركات استجابة لهذا المشروع، لكن تأخر التحركات العربية أعطتها صفة الاستقلالية، وحمتها كثيرا من التهم التي كانت ستوجه لها.
فثورتا تونس ومصر كانتا بحراك داخلي صرف، ولم تكونا استجابة لدعوات خارجية على الرغم من تأثرهما بما يدور في العالم من دعوات الحرية والديمقراطية، وقد تمثلت صورة ذلك الاستقلال في موقف «شباب الثورة» في كلا البلدين من الموقف الأميركي، فقد رفض الشباب المصري دعوة للقاء هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية أثناء زيارتها لمصر، كما خرج الشباب التونسي في مظاهرة رافضة لزيارتها لتونس، جاء ذلك ردا على موقف الحكومة الأميركية من كلا الثورتين واتهامهما بمساندة النظامين السابقين في كلا البلدين، في الوقت الذي كان فيه «عواجيز» الأحزاب السياسية يتسابقون للقائها في كلا الدولتين!!
وقد يرى بعض المهتمين بالشأن السياسي أن مثل هذا السلوك لا ينم عن دبلوماسية أو خبرة أو وعي.
وقد يصدق ذلك مع التعامل السياسي في الدول ذات الاستقرار، لكنه لا يصدق على الثورات التي تريد لنفسها أن تنأى عن «مستنقع» الألاعيب السياسية، كما يؤكد على أن العرب بدؤوا يرسمون لأنفسهم طريقا آخر قد يلتقي مع الآخرين وقد يختلف معهم وفقا للمصالح الخاصة بهم، وأن فترة «التبعية» العمياء التي سار عليها العرب خلال العقود الماضية لم تعد هي الوسيلة الطبيعية في العلاقات بين الشعوب والدول، لقد تغير المشهد العربي خلال الفترة القصيرة التي مرت، ولا بد للعرب والآخرين أن يعلموا ذلك، لأنهم بغير هذا لن يستطيعوا أن يرسموا ملامح المستقبل بصورة صحيحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سعيد حارب /العرب القطرية 21/3/2011
0 التعليقات:
إرسال تعليق