تباينت حول «مرجعية» الدولة بقدر ما التقت على شكل «مدنيتها» آراء كثير من الكيانات السياسية والحزبية وذوي الفكر والثقافة فمن قائل بضرورة المرجعية الليبرالية إلى منادٍ بعلمانيتها إلى مفضل لماركسيتها إلى مسوق لاشتراكيتها إلى غير ذلك من المرجعيات الموجودة في «سوق الساحة السياسية». إلا أننا حين نفحص هذه البضاعة السياسية نجدها كلها «بضائع مستوردة» وليست «منتجات وطنية» نابتة في تراب هذا البلد الطاهر الذي ارتوى بدم الشهداء رغبة في «تحريره» والحفاظ على «استقلاليته». ولأننا ما زلنا في أجواء ثورة «الشعب المصري» التي قامت في 25 يناير 2011 لتحريره من «الديكتاتورية والاستبداد والفساد» وما نتج عن هذه المنظومة من مفاسد – جوهرها الرئيسي غياب الضمير – نكتشفها يوميا بسرعة تزيد على قدرتنا على الاستيعاب. ولأن «البلدي يؤكل» فإننا في بحثنا عن «المرجعية» لابد وأن يكون من «خصائصها» أن تكون من نبات أرضنا لتتواكب مع تركيبتنا وخصائصنا الاجتماعية وتعالج فينا الضمير وتحييه كما تعالج فينا السلوك القانوني وتُرشّده وتتناغم مع تقاليدنا وقيمنا وحضارتنا المصرية. ولأن أغلب الجماهير المصرية هي جماهير مسلمة في دينها و / أو حضارتها – إن كانت تدين بغير الإسلام – فإن المرجعية المناسبة للوجدان الجماهيري المصري هي المرجعية الإسلامية بما تمثله هذه المرجعية من تراكم في الثقافة والفكر والضمير والحس الوطني المصري وما تملكه من مخزون هائل من الصور والمواقف التي تتبلور في كافة المجالات الحضارية في المجتمع الإنساني حيث مثّل الدين في الوجدان الجمعي المصري مرتكز الحضارة وأساسها منذ فجر التاريخ ولعل المعابد والمقابر والأهرامات والكنائس والمساجد وغيرها من مظاهر الحضارة والعمران شاهداً قويا على ذلك. وقد كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “جالوب“ الأمريكية منتصف عام 2007 أن أكثر من 90% من الشعب المصري يؤيد تحكيم الشريعة الإسلامية، وأن حوالي ثلثي المصريين يطالبون بجعل الشريعة المصدر «الوحيد» للتشريع. وكشف تقرير أصدره منتدى “بيو للدين والحياة العامة“ التابع لمركز “بيو“ الأمريكي للأبحاث بواشنطن أن المسلمين في مصر 94.6% من الشعب المصري. وأن (الأرثوذكس والإنجيليين والكاثوليك وطوائف أخرى) تشكل جميعها 5.4% فقط أي حوالي 4.5 مليون شخص من عدد سكان مصر البالغ 83 مليون شخص. بما يعني أن عدد الليبراليين والماركسيين والعلمانيين واليساريين والناصريين وجميع مناهضي المرجعية الإسلامية للدولة من المسلمين أقل من 3% من عدد سكان مصر المحروسة ؛ لذلك فالمرجعية الإسلامية للدولة المصرية المدنية الحديثة تمثل – من وجهة نظري – ضرورة وطنية. والإسلام لم يعرف يوما حكم الثيوقراط أو الدولة الدينية التي «يحتكر حكامها الحق» لأنهم يتكلمون باسم «الله» ويمثلون «ظله» على الأرض فيدّعون «العصمة» ويُحرّمون المعارضة ويمتصون دماء الشعوب وخيراتهم فيستبدون بهم ويُسخرونهم لتحقيق مآربهم ولو أدى ذلك لتغيير «حكم الله وتعاليم الدين» التي يدّعون حمايتها فيحرمون الحلال ويحلون الحرام. دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) [سورة التوبة. من الآية: 31] فقال: إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم. ولقد شاعت في ثقافة العامة من المسلمين – في صدر الإسلام – استهجان الدولة الدينية التي تستبد الناس وتظلمهم وتجور عليهم وتصادر حريتهم فكانت «رسالة» الإسلام التي فقهها «عامة» المسلمين هي «تحرير» الناس من رق هذه العبودية ، يقول ربعي بن عامر حين سأله رستم ما الذي جاء بكم ؟ فقال ربعي بن عامر: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جَوْر (ظلم) الأديان إلى عدل الإسلام». فكانت كلمته هذه تعبيرا صادقا عن «الرسالة» التي ثقّفهم عليها الإسلام: «ثقافة الحرية» واستحق ربعي بها أن يخلده التاريخ ، فهل حفظ له التاريخ غيرها ؟!! كما أشاع الإسلام بين أتباعه «ثقافة المساواة التامة والمواطنة الكاملة» فلا تفاضل بين الناس إلا بقدر كفاءتهم وأعمالهم الصالحة المفيدة للوطن والمواطنين «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى». ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم أشد التأكيد على «المساواة التامة بين جميع المواطنين أمام القانون» حين جاءه من يشفع في إعفاء المرأة المخزومية التي سرقت من العقاب فقال غاضبا: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فخطب الناس فقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». ولقد ضمن الإسلام لجميع المواطنين «حق المعارضة» للحاكم إذا أخطأ وأباح لهم «تصحيح» هذا الخطأ بكل الوسائل القانونية والسلمية المتاحة بداية من الكتابة والنشر والخطب والمؤتمرات والأحاديث والإذاعة ورفع الدعاوى القضائية والتظاهر والاحتجاج وصولا إلى رفع الصفة الدستورية عن هذا الخطأ ثم العصيان المدني وتغيير الحاكم المخطئ وجعل الإسلام هذه المعارضة دليلا على صحة وسلامة «الإيمان» والتقصير فيها «مناقض» للإيمان ويستوجب «عقاب الله». قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهوّن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد». وقال: «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف». وقال صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وتطبيقات هذه المعارضة في عصر الخلفاء الراشدين وما بعده تفوق الحصر. إن الله قد فرض على المسلمين العدل وأمرهم به إذا حكموا بين «الناس» فالعدل فريضة من فرائض الإسلام لا تبرأ ذمة المسلم إلا بإقامته فالعدل أساس الملك. وإهدار العدالة فيه خروج عن «أمر الله» والله تعالى لا ينصر ولا يديم ملك من خرج عن أمره. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [سورة النحل - الآية : 90]. ويقول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) [سورة النساء - الآية : 58] ولفظ الناس حين يرد في القرآن الكريم يعني «المسلم» و «غير المسلم» فهو «عدل مطلق» حتى ولو تعلقت المنازعة والخصومة بقوم لا نحبهم ونبغضهم لسبب من الأسباب. يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [سورة المائدة - الآية : 8]. وأداء الأمانات إلى أهلها واجب شرعي وإضاعة الأمانة سبب الدمار والخراب. وحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ – يعني يوم القيامة – قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة». قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». فالمحاباة والمجاملة وعدم تكافؤ الفرص والرشوة والمحسوبية وكل أشكال التصرف والتمييز والانحياز التي تؤدي إلى استبعاد «الأكفاء» من الوظائف أو المناصب وتولية «غير الأكفاء» سبب للخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يهدد كيان الدولة ووجودها كما أنها تستوجب غضب الله على فاعلها وعلى من علم بها ولم ينكرها. وأعظم «الأمانات» التي يجب ردها إلى أهلها أمانة «تحكيم المالك في ملكه». ونحن لا ندري أن أحداً نازع الله – عز وجل – في ملكية الكون، ومن ثم فملكية الله للكون وما فيه: ملكية هادئة مستقرة – بتعبير القانونيين – فيلزم من ذلك «وجوب» تحكيمه في ملكه وتمام سيطرته عليه؛ ومظهر ذلك: تحكيم شريعته بين الناس. يقول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [سورة النساء - من الآية : 58]. يقول القرطبي: هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع. أي العقيدة والقانون. إن الإسلام وهو يخاطب المسلمين في القرآن أن يتعوذوا برب الناس وإله الناس ذكّرهم أن هذا الرب وهذا الإله هو في الوقت نفسه (ملك الناس) وهكذا يربط القرآن الكريم «العقيدة» بالملك والسياسة في سورة نحفَظُها صغارا، ونُحفِظها أولادنا ونحن كبار ألا وهي سورة الناس: «قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس(3)» [سورة الناس]. والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح أن «الحكم» من عُرى (فرائض) الإسلام التي يجب أن يتمسك بها المسلمون ويدافعوا عنها لأنها أول عُرى الإسلام وفرائضه التي تتعرض للهجوم ومحاولات الاستبعاد والاستئصال والتغييب فإذا تهاون المسلمون في الدفاع عنها تعرضت باقي عُرى الإسلام وفرائضه للاستئصال والاستبعاد حتى الصلاة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لينتقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة». ولقد أوجب الله تعالى على المسلمين التحاكم إلى شريعته – وحده – وأعلمهم أن كل قانون يخالف قانونه الحكيم إنما يتسم بسمات الإنسان الذي صنعه. سمات الهوى والمحاباة والتمييز والنقص ومحدودية الإدراك وقلة الخبرات وقصور الإحاطة بأوضاع وأحداث ومشكلات الحاضر والمستقبل وعدم القدرة على المواءمة بين الروح والمادة وبين ترشيد السلوك القانوني والاجتماعي وتربية الحس والضمير والشعور فضلا عن قصور الصياغة وتضاد المواد ووجود الثغرات. فيعكس «قانون الإنسان» جهله وظلمه وقصوره لذلك سماه ربنا سبحانه وتعالى «حكم الجاهلية» الذي يضاد حكم الخالق الخبير سبحانه وحذرهم من التفريط في «بعض» ما أنزل الله تعالى لهم من الشريعة الكاملة الطاهرة. قال تعالى: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)» [سورة المائدة]. وحذر الله المسلمين من كل من يزين لهم التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى، وبين أنهم أعداء الرسل وأعداء الأديان، يظهرون في كل عصر ومصر، وأنهم يزينون الأقوال والكلمات والنظريات ويتلقفونها من بعضهم البعض وينشرونها ويرددونها، مما يؤدي إلى فتنة الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ فيتبنون ما يقول هؤلاء ويرضونه فلا يجنون من ورائه إلا العنت والشقاء، ويتعجب – على لسان الرسول – من الإعراض عن هذا المنهج الإلهي الكامل الشامل «المفصل» والانسياق وراء ظنون البشر وأهوائهم، مع الدعوة إلى الثقة وعدم الارتياب في هذا المنهج وهذه الشريعة المطهرة، ويسوق البشرى للمؤمنين بانتصارها في النهاية. يقول تعالى: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113) أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117)» [سورة الأنعام].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزائر:: أحمد عبد التواب سلطان::اسلام ويب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزائر:: أحمد عبد التواب سلطان::اسلام ويب
0 التعليقات:
إرسال تعليق